-A +A
علي بن محمد الرباعي
اعتادت القرية مشهد توافد المتعبين من طالبي البركة والشفاء على يد (فقيه) مُهاب. تبرك الجمال وتُربط المشاديد في ساحة واسعة لمنزله الفسيح، متعدد الحجرات. تتوسط الساحة شجرة حماط ذكر معمّرة، ظلها موزع بين فيّة الضحى، وفيّة القيلة والعصاري. تعددت الأقاويل حول سيرة الشيخ المداوي، بين قائل، إنه وفد من زبيد اليمن قبل سنين في ونين، وقائل إن الأسرة عريقة، وعندها علم كتاب، وتوارثت مهارات التطبيب من أسلاف مهرة.

اشتهر (الفقيه) بالحرص على نظافة مظهره، وللمحافظة على نضارة وجهه. يختذم من حلّة الزبدة البلدي كل صباح ليرطب تجاعيده. الزبد لا ينقطع من بيته، فالنسوة اللاتي يعرفن مهارته في التوليف بين الأزواج، وقدراته في الفك والربط والمحبة، يشترين وده بلحمة باردة، وإلا بطاسة لبن، واللي تجيء بزبدية حُقانة، واللي بلبزة زبدة من مخيض أبقارهن.


يوم الجمعة يوم راحة الفقيه لا (يفتش) لأحد، وكل من يطلب الفتشة يرده، قائلاً تجيني صبح السبت الله لا يهنيك، الجمعة للعبادة، فيخصص يومه للاغتسال، والتكحل، ويتبخر ويخرج بالجاعد ويفرشه تحت الحماطة، والجارات عاشقات الحياة، يأتين بالفطور الجماعي، فتّة بالسمن والسكّر، ومصفاة قشر، وصحن تمر، وعيش محرّق باللبن، وقرص مجرفة بالبصل، يطيب يومهن معه بحكاوي تزيد في العمر، والنساء المقهويات جميلات بحكم أنهن لا يلحقهن شقا، وكل واحدة تقول الزود عندي. يضع في كف إحداهن قبضة لباب بجلي وكف بعضهن هبشة زبيب خولاني، ويروي لهن قصصاً ساخرة وقصائد ملغّزة، يقهقهن فيمتدحهن بقوله (والله إن أقل واحدة منكن رِجلها فوق رقبتي). فيرددن بصوت واحد (محشوم. الله يكرمك).

في عزّ انبساطه، شاهد جملاً قادماً، عليه امرأة، وأمام الجمل شابان، علّق «يا الله إنك لا تحييهم» نوّخوا بعيرهم، وتعالى صياح المرأة، فانقلبت القرية، وتجمهرت النسوة وتفازع الأطفال، وإذا بفتاة عشرينية، مربّطة ومقيدة بالسلاسل والحبال، قال الفقيه: أدخلوها الحجرة الطارفة، ولحق بهم، وبمجرد أن دخل هدأ صوتها. فك قيودها، وطلب طاسة ماء، نضح على وجهها برؤوس أصابعه، فانعقد لسانه، من جمالها، وطلب من إحدى زوجاته تفطّرها وتجلس معها. خرج مع الشابين للحوش، وجاراته بعد جالسات، فقال: خلف الله عليكن. الله يلقيكن خير.

سأل أخويها عن سبب جنونها، فأخبروه أنها منذ ليلة زفافها تلبسها عفريت، وبدأ يعلو صراخها وتمزق ثيابها. طلب منهم مهلة لدقائق. دخل عليها، وبدأ يقرأ ويتمتم، ثم عاد إليهم، وقال: اللي عندها (سحابي) وإخراجه صعب، وهذه امرأة، ولذا تروحون ديرتكم، تطلقونها من زوجها، وهي في وجهي حتى ترجعون، وأنا إن حبيتم أداويها لازم أتزوجها لأن إخراج الجان يقتضي خلوة، وربما تتكشف، وعندما أتزوجها تصبح حليلة وعليلة ودواها عندي.

انصرف إخوتها، وعادوا في اليوم التالي، بما طلب الفقيه. تزوجها وأتم علاجها، ومع الراحة والعيشة تعافت، إلا أن الفقيه، اختلف وما شاف خير، تلبسته حالة مرض تجعله يدور حوله نفسه حتى ينصرع، فأخذت الزوجة المتعافية نفسها ورحلت من القرية ولحقت بأهلها وخلّته لعفرة، وهرب النسوان وما بقي في البيت إلا هو وشيمان.

كان ابنه (شيمان) يتلصص عليه أيام كان يداوي، ويرصد حركاته، في الخنق، والنفث، والضرب، ويحاكيه، يتكحل من كحل أمه، ويكسر من العثربة المجاورة للدمنة عوداً يتسوك به ويلف عمامته فوق رأسه، ويجمع الصغار والصغيرات، ويطلب من أحد أقرانه يمثل دور الممسوس، ويبدأ يخنقه، ويتف عليه، ويطبق الفتشة فتتعالى الضحكات، ويقوم ممثل دور المريض يهلل ويكبّر.

سأل الصبيان والفتيات (شيمان) كيف تعلمت تعالج؟ فأجابهم: في غرفة الشيبة العالية فزرة للكتب، تطل على حجرة الفتشة. خرقت لي بالشفرة خرق على قد عيني أشوفه وهو ما يشوفني، وإذا سمعت صياح النسوان أرصّ الكتب مكانها واشرد.

إثر مرض أبيه، وبعدما تأكد أنه عاجز عن المداواة، دخل إلى عليّة الكتب، واستندر أكبر كتاب وعلى ضوء القازة بدأ يقلّب الصفحات ويتهجى الحروف والنقوش، وما شعر إلا وفئران بحجم السباع تتوارد عليه من الباب والنافذة والسقف فاغرة ولها أنياب، فخرّ مغشياً عليه، ولم ينهض إلا بمساعدة أبيه وعمته التي جاءت في نهار تالي تتفقد بيت أخيها فوجدت (شيمان) يشخر وجبجبه متطاير، والكتاب المشؤوم مفتوح على الصفحة الأولى، سمّت عليه، ورفعته عن الأرض وغسلت وجهه ورشت رأسه بماء حتى فاق.

طلب الفقيه من أخته، تستدعي المؤذن. حضر، فقال: حُق ما في العُلية من كتب، واحرقها. أضاف «والله يا ولدي لسلم سلامة، أشوى أنهم ما شدقوه، ورّدهم المغزول وما عرف يصدّرهم».

أخذه أبوه إلى فقيه مشهور، في وادي وراء جبال جنوبية، وعاد (شيمان) من المشوار شاعر. كان يجلس مع أبيه تحت الحماطة، فيضع رأسه في حضن الشايب، ويطلب منه يفلّيه، وعينه على المرضى متقاطرين على ساحة بيت المؤذن، فيبدع (غديت لبني عمر عند الطبيب العمري، لا فاد زيتونه ولا ماي صحته).

كاتب سعودي

Al_ARobai@